تربية الطفل فى الاسلام

قسم: أبحاث علمية تربية الطفل فى الاسلام » بواسطة عبد الرحمن - 11 يناير 2022

بحث علمي كامل عن تربية الطفل من المنظور الاسلامى
مقدمه :
إن تربية الطفل تعني في المنظور الإسلامي إنماء الغرائز المعنوية ، والاهتمام باعتدال الغرائز المادية .
فسَعادة الطفل تتحقَّق في التعامل الصحيح مع نفسه وليس مع جسده ، بثوبٍ جميلٍ يرتديه ، أو حُلِيٍّ يتزيَّن بها ، أو مَظهر جذَّاب يحصل عليه ، ويتخلص الطفل من الألم حين يمتلك الوقاية من الإصابة بالأمراض النفسية ، كالغيرة والعناد والكذب .ويجدر بالوالدين امتلاك الوعي اتِّجاه هذه الحقيقة التي جعلها الإسلام من الواجبات عليهما لما فيها من أثرٍ كبير على المجتمع .

أثر التربية على المجتمع

إن أكثر العظماء الذين قضوا حياتهم في خدمة الناس ، كانوا نتاج تربية صحيحة تلقوها في صغرهم ، فأثَّرت على صناعة أنفسهم وأصبحوا عظماء بها .والقرآن الكريم حين يحدِّثنا في أطول قصة جاءت فيه تدور أحداثها عن الصراع القائم والدائم بين الحق والباطل .ومن أبرز الشخصيات التي واجهت الظلم بكل أبعاده وعناوينه هو النبي موسى ( عليه السلام ) ، الذي جعله القرآن رمزاً في التحدِّي والمواجهة للظاهرة الفرعونية على الأرض .
ونجد أن طفولته ( عليه السلام ) كانت تحت رعاية أمٍّ وصلت من خلال تربيتها لنفسها إلى درجة من الكمال الإنساني أوصلها إلى درجة أن يُوحى إليها : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) القصص : 7 .
ثم تلقَّفته يد أخرى لها مكانة أيضاً في مَدارج التكامل الإنساني ، وهي آسية زوجة فرعون ، التي تخلَّت عن كلِّ ما تحلم به المرأة من زينة ووجاهة اجتماعية مقابل المبدأ والحركة الرسالية ، وتعرَّضت لوحشية فرعون الذي نشر جسدها بعد أن وَتَدَهُ على لوحة خشبية ، وأصبحَتْ بذلك مثلاً للمؤمن ضربه الله للمؤمنين وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) التحريم : 11 .
وبالمقابل نجد أنَّ أكثر من يعيث في الأرض فساداً أولئك الذين وجدوا في صغرهم أيادي جاهلة تحيط بهم .وبمراجعة بسيطة في مزبلة التاريخ تلحظ طفولة المجرمين والطغاة نساءً ورجالاً قاسية جافَّة ، بسبب سوء التعامل مع النفس البريئة .فقد جاء في الحديث الشريف : ( قَلْبُ الحَدَثِ كالأرضِ الخَالِيَة ، مَا أُلقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبلَتْهُ ) .والحديث : ( بَادِرُوا [ أحْدَاثَكُم ] بالحَديثِ قَبْلَ أنْ تَسْبقُكُم إلَيْهِ المُرْجِئَة ) .
ومن الحديث الأول يتضح أن نفسيَّة الطفل كالأرض الخالية التي تنبت ما أُلقي فيها من خيرٍ أو شَرٍّ يتلقَّاه الطفل من والديه من خلال التعليم والسلوك .
ومن الحديث الثاني تتَّضح ضرورة الإسراع في إلقاء مفاهيم الخير في نفسه الخصبة ، قبل أن يسبقنا إليه المجتمع ليَزرعَ في نفسه أفكاراً أو مفاهيم خاطئة .

تقويــــــــم السلـــــــــوك

وتبقى التربية في الصغر عاملاً مؤثراً على سلوك الفرد وليس حتمياً ، بمعنى أنَّ الفرد حين يكبر بإمكانه أن يعدل سلوكه وفكره ، فيما لو تلقَّى تربية خاطئة في صغره ، فله أن يجتثَّ في سِنِّ الرشد أصول الزرع الشائك ، الذي بذره الوالدان في نفسه صغيراً ، وبإمكانه أن يُذهب العُقَد التي خلَّفَتْها التربية الخاطئة ويمحو رَوَاسبها .
جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنَّ نُطْفَةَ المُؤمِنِ لَتَكُونُ فِي صُلْبِ المُشْرِكِ فَلا يُصِيبُهَا مِنَ الشَّرِّ شَيء ، حَتَّى إِذَا صَارَ في رَحمِ المُشرِكَة لَمْ يُصِبْهَا مِن الشَّرِّ شَيء ، حَتَّى يَجْري القَلَمُ ) .ويعني ( عليه السلام ) بقوله : ( حَتَّى يَجْري القَلَمُ ) .
هو بلوغ الفرد مرحلة الرشد والتكليف ، فيكون مسؤولاً عن نفسه وعمله ، ليحصل بذلك على سعادته وشقائه باختياره وإرادته .
حاول علماء التربية قديماً وحديثاً أن يهتدوا إلى منهجٍ تربويّ شامل يُعنى بتحديد الاَساليب والقيم والمعايير الكفيلة بدراسة ما يناسب مرحلة الطفولة والصبا. وقد بذلوا في هذا الصدد جهوداً كبيرة وشاقة ومتواصلة حتى استطاعوا التوصل إلى نظرات ومقترحات وتوصيات تُعدُّ ـ من وجهة علمية ـ قيّمة ونافعة ، إلاّ أنهم لم يتمكنوا ـ مع ذلك ـ من تحديد المنهج الدقيق الذي يمكن الاستناد إليه في معالجة المشاكل المعقدة ، التي تكتنف تلك المرحلة الحساسة من عمر الاِنسان ، كما أخفقوا في حلِّ الصعوبات المتزايدة يوماً بعد آخر التي تواجه الآباء والاُمهات والمربين في هذا المجال.
ولعل من المؤسف حقاً أنّ تتوجه أنظار كثير من المسلمين ـ وخاصةً العاملين منهم في حقل التربية ـ إلى مدارس الغرب التربوية ليتلقوا عنهم مناهجهم التربوية ، وأن يفوتهم أنّ في الشريعة الاِسلامية العلاج الناجع لجميع ما استُعصي عليهم حلُّه ، وأنَّ في سيرة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم وفي سيرة أهل بيته الطاهرين عليهم السلام معيناً لا ينضب من الوصايا والاِرشادات ، والتعاليم والتوجيهات التي لو استخدمت في الحقل التربوي ، ووظّفت في مجالاته المتعددة ، لكانت كفيلة بترسيخ أروع القيم والمثل العليا في نفس الطفل ، ولاَقامتَه بناء سليماً معافىً ، ولجعلت منه شخصية سويّة قادرة على القيام بدورها ـ كما ينبغي ـ في بناء المجتمع.
إنَّ المنهج الاِسلامي الذي يمكن تحديد معالمه وقواعده بالاستناد إلى القرآن الكريم والسُنّة النبوية المطهرة وما أُثر عن الاَئمة المعصومين عليهم السلام يهدف إلى تحقيق تربيةٍ متزنة للطفل تبدأ من قبل أن ينعقد جنيناً في رحم الاَُم وتستمر معه إلى أن يشبَّ عن الطوق ، مروراً بمرحلة الحمل ، والولادة والرضاعة ، والطفولة المبكرة.
والكتاب الذي بين يديك ـ أيُّها القارىء العزيز ـ استطاع أن يحدد ملامح المنهج التربوي الاِسلامي الذي يُعنى بكيفية إعداد الطفل نفسياً وعقلياً وسلوكياً ، مستنداً ـ في ذلك ـ إلى آيات القرآن الكريم ، وإلى المأثور عن الرسول الاَعظم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أهل البيت الطاهرين عليهم السلام. مستفيداً أيضاً من الدراسات العلمية الحديثة في هذا الاِطار.
ويسرّ مركزنا أن يقدّم هذه الدراسة الممتعة والنافعة إسهاماً منه في خدمة الآباء والاَُمهات والمشتغلين في أُمور تربية الطفل ، وذلك بتيسير أوضح السبل وأكثرها دقة وأماناً في تنشئة الطفل نشأة قويمة صالحة ؛ لكي يؤدي دوره المنشود.
المنهج التربوي العام في العلاقات الاَُسرية

العلاقات الاَُسرية لها دورٌ كبير في توثيق بناء الاسرة وتقوية التماسك بين أعضائها ولها تأثيراتها على نمو الطفل وتربيته ، وايصاله إلى مرحلة التكامل والاستقلال.
والاَجواء الفكرية والنفسية والعاطفية التي تخلقها الاَُسرة للطفل تمنحه القدرة على التكيّف الجدّي مع نفسه ومع اسرته ومع المجتمع ، ومن هذا المنطلق فان الاسرة بحاجة إلى منهج تربوي ينظم مسيرتها ، فيوزع الادوار والواجبات ويحدّد الاختصاصات للمحافظة على تماسكها المؤثر في انطلاقة الطفل التربوية.
وتتحدد معالم المنهج التربوي بما يلي :

أولاً : الاتفاق على منهج مشترك

للمنهج المتبنّى في الحياة تأثير على السلوك ، فهو الذي يجعل الايمان والشعور الباطني به حركة سلوكية في الواقع ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة ، فتبقى فيه الحركة السلوكية متفاعلة مع ما يُحدد لها من تعاليم .
وبرامج ، ووحدة المنهج تؤدي إلى وحدة السلوك ، فالمنهج الواحد هو المعيار والميزان الذي يوزن فيه السلوك من حيثُ الابتعاد أو الاقتراب من التعاليم والبرامج الموضوعة ، فيجب على الوالدين الاتفاق على منهج واحد مشترك يحدّد لهما العلاقات والادوار والواجبات في مختلف الجوانب ، والمنهج الاسلامي بقواعده الثابتة من أفضل المناهج التي يجب تبنيها في الاسرة المسلمة ، فهو منهج ربانّي موضوع من قبل الله تعالى المهيمن على الحياة بأسرها والمحيط بكل دقائق الامور وتعقيدات الحياة ، وهو منهج منسجم مع الفطرة الاِنسانية لا لبس فيه ولا غموض ولا تعقيد ولا تكليف بما لا يُطاق ، وهو موضع قبول من الاِنسان المسلم والاَُسرة المسلمة ، فجميع التوجيهات والقواعد السلوكية تستمد قوتها وفاعليتها من الله تعالى ، وهذه الخاصية تدفع الاسرة إلى الاقتناع باتباع هذا المنهج وتقرير مبادئه في داخلها ، فلا مجال للنقاش في خطئه أو محدوديته أو عدم القدرة على تنفيذه ، فهو الكفيل بتحقيق السعادة الاُسرية التي تساعد على تربية الطفل تربية صالحة وسليمة ، وإذا حدث خلل في العلاقات أو تقصير في أداء بعض الادوار ، فان تعاليم المنهج الاسلامي تتدخل لانهائه وتجاوزه.
والمنهج الاسلامي وضع قواعد كلية في التعامل والعلاقات والادوار والسلوك ، امّا القواعد الفرعية أو تفاصيل القواعد الكلية ومصاديقها فانها تتغير بتغير الظروف والعصور ، فيجب على الوالدين الاتفاق على تفاصيل التطبيق ، وعلى قواعد ومعايير ثابتة ومقبولة من كليهما ، سواءً في العلاقات القائمة بينهما أو علاقاتهما مع الاطفال والاسلوب التربوي الذي يجب اتّباعه معهم ؛ لانّ الاختلاف في طرق التعامل وفي اسلوب.
ثانياً : علاقات المودّة
من واجبات الوالدين إشاعة الودّ والاستقرار والطمأنينة في داخل الاسرة ، قال تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة..) (2).
فالعلاقة بين الزوج والزوجة أو الوالدين علاقة مودّة ورحمة وهذه العلاقة تكون سكناً للنفس وهدوءاً للاعصاب وطمأنينة للروح وراحة للجسد ، وهي رابطة تؤدي إلى تماسك الاسرة وتقوية بنائها واستمرار كيانها الموّحد ، والمودّة والرحمة تؤدي إلى الاحترام المتبادل والتعاون الواقعي في حل جميع المشاكل والمعوقات الطارئة على الاسرة ، وهي ضرورية للتوازن الانفعالي عند الطفل ، يقول الدكتور سپوك : (اطمئنان الطفل الشخصي والاساسي يحتاج دائماً إلى تماسك العلاقة بين الوالدين ويحتاج إلى انسجام الاثنين في مواجهة مسؤوليات الحياة) (3).
ثالثاً : مراعاة الحقوق والواجبات
وضع المنهج الاسلامي حقوقاً وواجبات على كلِّ من الزوجين ، والمراعاة لها كفيل باشاعة الاستقرار والطمأنينة في أجواء الاسرة ، فالتقيد من قبل الزوجين بالحقوق والواجبات الموضوعة لهم يساهم في تعميق الاواصر وتمتين العلاقات الوديّة وينفي كلّ أنواع المشاحنات والتوترات المحتملة ، والتي تؤثر سلبياً على جو الاستقرار الذي يحيط بالاسرة والمؤثر بدوره على التوازن الانفعالي للطفل .
ومن أهم حقوق الزوج هو حق القيمومة ، قال الله تعالى : ( الرجالُ قوّامون على النسّاء بما فضّل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم..). فالواجب على الزوجة مراعاة هذا الحق لانّ الحياة الاسرية لا تسير بلا قيمومة ، والقيمومة للرجل منسجمة مع طبيعة الفوارق البدنية والعاطفية لكلِّ من الزوجين ، وان تراعي هذهِ القيمومة في تعاملها مع الاطفال وتشعرهم بمقام والدهم .
وأهم الحقوق بعد حق القيمومة كما جواب في قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) على سؤال امرأة عن حق الزوج على المرأة فقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «أن تطيعه ولا تعصيه ، ولا تصدَّق من بيتها شيئاً إلاّ باذنه ولا تصوم تطوعاً إلاّ باذنه ، ولا تمنعه نفسها وان كانت على ظهر قتب ولا تخرج من بيتها إلاّ باذنه..».
رابعاً : تجنب إثارة المشاكل والخلافات
المشاكل والخلافات في داخل الاسرة تخلق أجواءً متوترة ومتشنجة تهدد استقرارها وتماسكها ، وقد تؤدي في أغلب الاحيان إلى انفصام العلاقة الزوجية وتهديم الاسرة ، وهي عامل قلق لجميع أفراد الاسرة بما فيها الاطفال ، حيثُ تؤدي الخلافات والاَوضاع المتشنجة بين الوالدين إلى خلل في الثبات والتوازن العاطفي للطفل في جميع المراحل التييعيشها ، بدءاً بالاشهر الاولى من الحمل ، والسنين الاولى من الولادة والمراحل اللاحقة بها .
والاَجواء المتوترة تترك آثارها على شخصية الطفل المستقبلية ، و (إنّ الاضطرابات السلوكية والامراض النفسية التي تصيب الطفل في حداثته والرجل في مستقبله ، تكون نتيجة المعاملة الخاطئة للابوين كالاحتكاكات الزوجية التي تخلق الجو العائلي المتوتر الذي يسلب الطفل الامن النفسي) .ويقول العالم جيرارد فوجان : (والام التي لا تجد التقدير الكافي إنسانة وأم وزوجة في المنزل لا تستطيع ان تعطي الشعور بالامن). فالشعور بالامن والاستقرار من أهم العوامل في بناء شخصية الطفل بناءً سوياً متزناً ، وهذا الشعور ينتفي في حالة استمرار الخلافات والعلاقات المتشنجة ، والطفل في حالة مثل هذه يكون متردداً حيراناً لا يدري ماذا يفعل ، فهو لا يستطيع إيقاف النزاع والخصام وخصوصاً اذا كان مصحوباً بالشدة ، ولا يستطيع ان يقف مع أحد والديه دون الآخر ، اضافة إلى محاولات كلّ من الوالدين بتقريب الطفل اليهما باثبات حقّه واتهام المقابل باثارة المشاكل والخلافات ، وكل ذلك يترك بصماته الداكنة على قلب الطفل وعقله وارادته .
يقول الدكتور سپوك : (إنّ العيادات النفسية تشهد آلاف الحالات من الابناء الذين نشأوا وسط ظروف عائلية مليئة بالخلاف الشديد ، ان هؤلاء الابناء يشعرون في الكبر بأنهم ليسوا كبقية البشر ، وتنعدم فيهم الثقة بالنفس ، فيخافون من اقامة علاقات عاطفية سليمة ويتذكرون ان معنى تكوين أسرة هو الوجود في بيت يختلفون فيه مع طرف آخر ويتبادلون معه الاهانات) ويختلف نوع التشنجات والخلافات من أُسرة ا أخرى ، ويختلف اسلوب التعبير عن التشنجات من اسرة إلى أخرى ، فقد يكون التعبير بالالفاظ الخشنة البذيئة والاهانات المستمرة ، وقد يكون بالضرب واستخدام العقاب البدني ، ويلتقط الاطفال الممارسات التي تحدث اثناء الخلافات فتنعكس على سلوكهم الآني والمستقبلي ، فنجد في كثير من العوائل أن الابن يهين الام أو يضربها ، أو يستخدم نفس الاسلوب مع زوجته حين الكبر .
ومن أجل الوقاية من الخلافات والتشنجات بين الزوجين ، أو التقليل من تأثيراتها النفسية والعاطفية أو تحجيمها وانهائها ، فقد وضع الاسلام منهجاً متكاملاً إزاء الخلافات والتشنجات ، وقد مرّ في النقاط السابقة التأكيد على تعميق المودّة والرحمة داخل الاسرة ، ووضع برنامج للحقوق والواجبات بين الزوجين ، والاَهم من ذلك وضع برنامجٍ في اسلوب اختيار الزوج أو الزوجة كما سيأتي . والمنهج الاسلامي يبتني على اسلوب الحث والتشجيع على الوقاية من حدوث الخلافات أو معالجة مقدماتها أو معالجتها بعد الحدوث ، وعلى اسلوب الردع والذم للممارسات الخلافية أو التي تؤدّي إلى الخلافات .
مرحلة الطفولة المبكرة

تبدأ مرحلة الطفولة المبكرّة من عام الفطام إلى نهاية العام السادس أو السابع من عمر الطفل ، وهي من أهم المراحل التربوية في نمو الطفل اللغوي والعقلي والاجتماعي ، وهي مرحلة تشكيل البناء النفسي الذي تقوم عليه أعمدة الصحة النفسية والخلقية ، وتتطلب هذه المرحلة من الاَبوين إبداء عناية خاصة في تربية الاطفال وإعدادهم ليكونوا عناصر فعّالة في المحيط الاجتماعي ، وتتحدد معالم التربية في هذه المرحلة ضمن المنهج التربوي التالي :
أولاً : تعليم الطفل معرفة الله تعالى
الطفل مجبول بفطرته على الايمان بالله تعالى ، حيثُ تبدأ تساؤلاته عن نشوء الكون وعن نشوئه ونشوء أبويه ونشوء من يحيط به ، وان تفكيره المحدود مهيأ لقبول فكرة الخالق والصانع فعلى الوالدين استثمار تساؤلاته لتعريفه بالله تعالى الخالق في الحدود التي يتقبّلها تفكيره المحدود ، والايمان بالله تعالى كما يؤكده العلماء سواء كانوا علماء دين أو علماء نفس (من أهم القيم التي يجب غرسها في الطفل.. مما سوف يعطيه الاَمل في الحياة والاعتماد على الخالق ، ويوجد عنده الوازع الديني الذي يحميه من اقتراف المآثم).
والتربية والتعليم في هذه المرحلة يفضّل أن تكون بالتدريج ضمن منهج متسلسل متناسباً مع العمر العقلي للطفل ، ودرجات نضوجه اللغوي والعقلي ، وقد حدّد الاِمام محمد الباقر (عليه السلام) تسلسل المنهج قائلاً : «اذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له : قُلْ لا إله إلاّ الله سبع مرات ، ثم يترك حتى تتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً فيقال له : قُلْ محمد رسول الله سبع مرات ، ويترك حتى يتم له أربع سنين ثم يقال له : قُلْ سبع مرات صلى الله على محمد وآله ، ثم يترك حتى يتم له خمس سنين ثم يقال له : أيهما يمينك وأيُّهما شمالك ؟ فاذا عرف ذلك حوّل وجهه إلى القبلة ويقال له : اسجد ، ثم يترك حتى يتم له سبع سنين فاذا تم له سبع سنين قيل له اغسل وجهك وكفيك فاذا غسلهما قيل له صلِّ ثم يترك ، حتى يتم له تسع سنين، فاذا تمت له تسع سنين علم الوضوء وضرب عليه وأمر بالصلاة وضرب عليها فاذا تعلم الوضوء والصلاة غفر الله عز وجلّ له ولوالديه انشاء الله».
وقد أثبت علم النفس الحديث صحة هذا المنهج (2 ـ 3 سنوات ، يكتسب كلام الطفل طابعاً مترابطاً ممّا يتيح له إمكانية التعبير عن فهمه لكثير من الاشياء والعلاقات… وفي نهاية السنة الثالثة يصبح الطفل قادراً على استخدام الكلام وفق قواعد نحوية ملحوظة وهذا يمكنه من صنع جمل أولية وصحيحة).وتعميق الايمان بالله ضروري في تربية الطفل .
والطفل في هذه المرحلة يكون مقلداً لوالديه في كل شيء بما فيها الايمان بالله تعالى ، يقول الدكتور سپوك : (إنّ الاساس الذي يؤمن به الابن بالله وحبه للخالق العظيم هو نفس الاساس الذي يحب به الوالدان الله) .
ويقول : (بين العمر الثالث والعمر السادس يحاول تقليد الابوين في كلِّ شيء فاذا حدّثاه عن الله فانه يؤمن بالصورة التي تحددها كلماتهما عن الله حرفياً) والطفل في هذه المرحلة يميل دائماً اِلى علاقات المحبة والمودّة والرقّة واللين فيحب أو يفضّل (تأكيد الصفات الخاصة بالرحمة والحب والمغفرة إلى أقصى حدٍّ ممكن مع التقليل إلى أدنى حد من صفات العقاب والانتقام).
فتكون الصورة التي يحملها الطفل في عقله عن الله تعالى صورة جميلة محببة له فيزداد تعلقه بالله تعالى ويرى انه مانح الحب والرحمة له .
واذا أردنا ان نكوّن له صورة عن يوم القيامة فالافضل ان نركز على نعيم الجنة بما يتناسب مع رغباته ، من أكل وشرب وألعاب وغير ذلك ، ونركز على انه سيحصل عليها إنْ أصبح خلوقاً ملتزماً بالآداب الاسلامية ، ويُحرم منها إنْ لم يلتزم ، ويؤجل التركيز على النار والعذاب إلى مرحلة متقدمة من عمره .
ثانياً : التركيز على حبّ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل البيت عليهم السلام
قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : «أدبّوا أولادكم على ثلاث خصال : حبّ نبيكم ، وحبّ أهل بيته ، وقراءة القرآن».
في هذهِ المرحلة تنمو المشاعر والعواطف والاحاسيس عند الطفل ، من حب وبغض وانجذاب ونفور ، واندفاع وانكماش ، فيجب على الوالدين استثمار حالات الاستعداد العاطفي عند الطفل وتنمية مشاعره وعواطفه ، وتوجيهها نحو الارتباط بأرقى النماذج البشرية والمبادرة إلى تركيز حبّ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، وحبّ أهل البيت عليهم السلام في خلجات نفسه ، والطريقة الافضل في تركيز الحبّ هو إبراز مواقفهم وسلوكهم في المجتمع وخصوصاً ما يتعلق برحمتهم وعطفهم وكرمهم ، ومعاناتهم وما تعرضوا له من حرمان واعتداء ، يجعل الطفل متعاطفاً معهم محباً لهم ، مبغضاً لمن آذاهم من مشركين ومنحرفين .
والتركيز على قراءة القرآن في الصغر يجعل الطفل منشدّاً إلى كتاب الله، متطلعاً على ما جاء فيه وخصوصاً الايات والسور التي يفهم الطفل معانيها ، وقد أثبت الواقع قدرة الطفل في هذه المرحلة على ترديد ما يسمعه ، وقدرته على الحفظ ، فينشأ الطفل وله جاذبية وشوق للقرآن الكريم ، وينعكس ما في القرآن من مفاهيم وقيم على عقله وسلوكه .
ثالثاً : تربية الطفل على طاعة الوالدين
يلعب الوالدان الدور الاكبر في تربية الاطفال ، فالمسؤولية تقع على عاتقهما أولاً وقبل كلّ شيء ، فهما اللذان يحدّدان شخصية الطفل المستقبلية ، وتلعب المدرسة والمحيط الاجتماعي دوراً ثانوياً في التربية.والطفل اذا لم يتمرّن على طاعة الوالدين فانه لا يتقبل ما يصدر منهما من نصائح وارشادات وأوامر إصلاحية وتربوية ، فيخلق لنفسه ولهما وللمجتمع مشاكل عديدة ، فيكون متمرداً على جميع القيم وعلى جميع القوانين والعادات والتقاليد الموضوعة من قبل الدولة ومن قبل المجتمع .قال الاِمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) : «جرأة الولد على والده في صغره ، تدعو إلى العقوق في كبره».وقال الاِمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) : «… شرّ الابناء من دعاه التقصير إلى العقوق».
وتربية الطفل على طاعة الوالدين تتطلب جهداً متواصلاً منهما على تمرينه على ذلك ؛ لاَنّ الطفل في هذه المرحلة يروم إلى بناء ذاته وإلى الاستقلالية الذاتية ، فيحتاج إلى جهد اضافي من قبل الوالدين ، وأفضل الوسائل في التمرين على الطاعة هو إشعاره بالحبّ والحنان ، يقول الدكتور يسري عبدالمحسن : (أهم العوامل التي تساعد الطفل على الطاعة.. الحب والحنان الذي يشعر به الطفل من كلِّ افراد الاسرة).
ومن الوسائل التي تجعله مطيعاً هي اشباع حاجاته الاساسية وهي (الامن ، والمحبة ، والتقدير ، والحرية ، والحاجة إلى سلطة ضاغطة).ويرى الدكتور فاخر عاقل هذه الحاجات بالشكل التالي (الحاجة إلى توكيد الذات ، أو المكانة ، ان يعترف به وبمكانته ، وان ينتبه إليه.. والحاجة إلى الاَمان والحاجة إلى المحبة والحاجة إلى الاستقلال).فإذا شعر الطفل بالحب والحنان والتقدير من قبل والديه ، فانه يحاول المحافظة على ذلك بإرضاء والديه وأهم مصاديق الارضاء هو طاعتهما.
فالوالدان هما الاساس في تربية الطفل على الطاعة ، قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : «رحم الله والدين أعانا ولدهما على برّهما» واسلوب الاعانة كما حددّه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : «رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالاحسان إليه ، والتألف له ، وتعليمه وتأديبه».
وقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «رحم الله من أعان ولده على برّه ، وهو أن يعفو عن سيئته، ويدعو له فيما بينه وبين الله».وقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «رحم الله من أعان ولده على برّه… يقبل ميسوره ، ويتجاوز عن معسوره ، ولا يرهقه ولا يخرق به…».
وحبّ الاطفال للوالدين ردّ فعل لحبّ الوالدين لهما.

فإذا كان الحبُّ هو السائد في العلاقة بين الطفل ووالديه ، فإنّ الطاعة لهما ستكون متحققة الوقوع ، وعلى الوالدين أنْ يُصدرا الاوامر برفق ولين بصورة نصح وإرشاد فان الطفل سيستجيب لهما ، أمّا استخدام التأنيب والتعنيف فإنه سيؤدي إلى نتائج عكسية ، ولذا أكدّ علماء النفس والتربية على التقليل من التعنيف كما جاء في قول أنور الجندي : (يقتصد في التعنيف عند وقوع الذنب ، لانّ كثرة العقاب تهون عليه سماع الملامة وتخفّف وقع الكلام في نفسه).
وإطاعة الاوامر لا يجد فيها الطفل الذي حصل على المحبة والتقدير أية غضاضة على حبه للاستقلال ، وبالمحبة التي يشعرها تتعمق في نفسه القابلية على تقليد سلوك من يحبّهم وهما الوالدين ، فينعكس سلوكهما عليه ، ويستجيب لهما ، فإنه اذا عومل كإنسان ناضج وله مكانة فانه يستريح إلى ذلك ويتصرّف بنضج وبصورة لا تسيء إلى والديه ، فيتمرّن على الطاعة لوالديه ، ومن ثم الطاعة لجميع القيم التي يتلقاها من والديه أو من المدرسة أو من المجتمع .
رابعاً : الاِحسان إلى الطفل وتكريمه
الطفل في هذه المرحلة بحاجة إلى المحبّة والتقدير من قبل الوالدين وبحاجة إلى الاعتراف به وبمكانته في الاسرة وفي المجتمع ، وان تسلّط الاضواء عليه ، وكلّما أحسَّ بانّه محبوبٌ ، وأنّ والديه أو المجتمع يشعر بمكانته وذاته فانّه سينمو (متكيفاً تكيّفاً حسناً وكينونته راشداً صالحاً يتوقف على ما اذا كان الطفل محبوباً مقبولاً شاعراً بالاطمئنان في البيت).
والحبُّ والتقدير الذي يحسّ به الطفل له تأثير كبير على جميع جوانب حياته ، فيكتمل نموه اللغوي والعقلي والعاطفي والاجتماعي ، والطفل يقلّد من يحبه ، ويتقبّل التعليمات والاَوامر والنصائح ممّن يحبّه ، فيتعلم قواعد السلوك الصالحة من أبويه وتنعكس على سلوكه إذا كان يشعر بالمحبة والتقدير من قبلهما .
وقد وردت عدة روايات تؤكد على ضرورة محبة الطفل وتكريمه .

قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : «أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم» وقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «رحم الله عبداً أعان ولده على بِرّه بالاِحسان إليه والتألف له وتعليمه وتأديبه».وقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «نظر الوالد إلى ولده حبّاً له عبادة» وقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «أحبّوا الصبيان وارحموهم ، فاذا وعدتموهم فوفوا لهم ، فانّهم لا يرون إلاّ انكم ترزقونهم».
ومن مصاديق محبة الطفل واشعاره بمكانته التشجيع له ومدحه على ما ينجزه من أعمال وإنْ كانت يسيرة والتجاوز عن بعض الهفوات ، وعدم تسفيه أقواله أو أعماله وعدم حمله على مالا يطيق كما جاء في قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : «رحم الله من أعان ولده على برّه… يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به…».
وتقبيل الطفل من أفضل الوسائل لاِشعاره بالحب والحنان ، قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : «أكثروا من قبلة أولادكم ، فان لكم بكلِّ قبلة درجة في الجنة»س وقال (صلى الله عليه واله وسلم) : «من قبّل ولده كان له حسنة ، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة…».
وقال الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام) : «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم» ومن مصاديق إشعار الطفل بانه محبوب إسماعه كلمات الحبّ والودّ ففي روايةٍ (جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فأخذ أحدهما فضمّه إلى إبطه ، وأخذ الآخر فضمّه إلى إبطه الآخر وقال : «هذان ريحانتاي من الدنيا»).
ومن أجل إشعار الطفل بمكانته الاجتماعية لتتعمق الثقة بنفسه كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يسلّم على الصغير والكبير كما جاء في الخبر إنّه : (مرّ على صبيان فسلّم عليهم). وتعامل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مع الحسن والحسين تعاملاً خاصاً ، فقد (بايع الحسن والحسين وهما صبيّان).
وإشعار الطفل بالحب والحنان من أهم العوامل التي تساعده على الطاعة والانقياد للوالدين.
والافضل أن يكون إشعار الطفل بانّه محبوب مرافقاً له في كلِّ الاوضاع والاحوال حتّى وإنْ أخطأ أو ارتكب ما يوجب التأنيب أو العقاب ، والافضل أن نجعل الطفل مميّزاً بين الحب له وعدم كراهيته في حالة خطئه أو ذنبه ، يقول الدكتور سپوك : (انّنا كآباء يجب أن لا نجعل الطفل يشعر في أي مرحلة من مراحل عمره بانّه منبوذ ولو حتى بمجرد نظرة عين ، انّ الطفل لا يستطيع ان يفرّق بين كراهية والديه لسلوكه وبين كراهيتهما له).
ولكن بالتدريب وتكرار العمل يمكننا أن نقنع الطفل بأنّ العمل الخاطىء الذي يرتكبه مبغوضاً من قبل والديه ، أو من قبل المجتمع مع بقاء المحبوبية له ، ونحاول إقناعه بالاقلاع عن الاعمال الخاطئة وإشعاره بإنْ الحب والحنان سيصل إلى أعلى درجاته في هذه الحالة

مضمون قد يهمك
أضف تعليقا