بحث عن التعاون فى الشدة

قسم: أبحاث علمية بحث عن التعاون فى الشدة » بواسطة محمود الاسوانى - 1 يناير 2022

التعاون فطرة وضرورة

الإنسان كثير الحاجات لإشباع دوافعه التي تتوزع بين حاجات عضوية /فيزيوليوجية، وحاجات اجتماعية تؤمن الأمن الإجتماعي والإستقرار النفسي، وحاجات قيمية أخلاقية وهي كل ما يتعلق بالمثل والجماليات والفنون، وهذه الحاجات لا يستطيع الإنسان أن يؤمّنها بمفرده لذلك كانت الفطرة في الإنسان أن يميل منذ الولادة إلى الأنس بالآخرين من أبناء جنسه ليتعاون معهم، وليتبادلوا الخدمات حسب الكفايات المتوافرة في كل واحد منهم، وبهذا يحصل التكامل ويكون معه التكافل حيث يكفل كل شخص أو مجموعة الآخرين، وبذلك يتحقق التضامن.

هذا التعاون الذي كان فطرة لتأمين الأُلف والإيلاف بات مع مسار حياة الإنسان ضرورة حيث يستحيل على أي إنسان أن يحفظ حياته بمفرده، لذلك كان التعاون والتلاقي ضرورة لتشكيل الأسرة؛ الخلية الإجتماعية الأولى التي يتكامل فيها الرجل والمرأة ويكون من لقائهما النسل الذي يؤمن استمرار جنس بني آدم.

لكل هذا يكون التضامن ضرورة، وهو الذي تشكلت من خلاله الجماعات البشرية في مجموعات قبلية أو وطنية وقومية لتأمين الحماية للإنسان أمام تبدل العوامل الطبيعية،أو ما يكون من حوادث ونوازل، أو ما يكون من عدوان الحيوان والوحش، أو عدوان الناس على بعضهم، وهكذا يصح القول: لا تستقيم حياة الإنسان خارج اجتماع إنساني، وهذا ما عبّر عنه المفكرون بالقول: الإنسان مدني اجتماعي بالطبع والضرورة.

 

الحوادث بين الإنسان والسنن الكونية الطبيعية

المسار الكوني يشهد حوادث وطوارئ ونوازل، والإنسان في موقع ماجريات الأمور محتاج للتكيف مع الواقع، وأن تكون عنده استجابات لما تكون في مواجهته من تحديات، وبذلك تتشكل الحضارة، إذ الحضارة استجابات بمواجهة تحديات.

لكن الشائع استخدام كلمة كوارث؛ حيث يقال: كوارث طبيعية، أو كوراث الحروب والفتن والنزاعات. وإذا كانت كلمة كوارث تصح على النوع الثاني فهو من صناعة بشرية، وقد صنع بعضهم الشر لهوى أو مصلحة أو لنزعة عدوانية، أما ما يتعلق بالسنن الكونية كالزلازل والبراكين والفيضانات وما شابه ذلك، فإن الصحيح أن نقول عنها: عوامل طبيعية، وهي تبدّل وتحوّل فيما اعتاده البشر وعسى أن يكون فيه خير، فالقول في العوامل الطبيعية الكونية أنها كوارث فيه تسرع ومجانبة للصواب. ولعل البيان القرآني قد أعطى الناس العبرة في هذا الأمر من خلال ما قام به العبد الصالح الذي التقاه موسى عليه السلام عند مجمع البحرين، والقصة كاملة في سورة الكهف، حيث قام العبد الصالح بأفعال أنكرها موسى عليه السلام وهي تشويه السفينة، ورفع القواعد من جدار مهدم، وقتل فتى.

إن ما يكون صناعة بشرية يترتب عليها قتل أو دمار أو إفساد في مختلف ميادين الحياة يصح أن تسمى كوارث، وكل ما تعلق بالسنن الكونية إنما هو عوامل طبيعية، وتبديل في السنن الكونية.

لكن البشر محتاجون في كلا الحالين إلى التضامن والتكافل، فهم محتاجون للتضامن ولتخفيف الضرر، أو وقف الخلل، وتأمين ما يحتاجه صاحب الحاجة الذي حلت في دياره أعمال كارثية كالحرب، أو عوامل طبيعية كالمرض أو الزلازل أو أية عوامل من هذا القبيل.

 

التعاون من الموقع المسلم والمسيحي

إن الإنسان هو المخلوق الأكرم عند الخالق سبحانه لذلك كان في مقاصد رسالات السماء الخالدة أن تسير الأمور بما يحفظ كرامة الإنسان، ويؤمّن له حياة كريمة، وأن تتوافر له ولمجتمعه قيم الحرية والعدل والخير والحق. لأن خلاف ذلك من قمع واستبداد وظلم وشر وباطل إنما يفسد حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ويولد النفور والنزاعات فيكون ما لا يرضي الله تعالى.

وقد أكد الإسلام كما المسيحية على أن التضامن مع الإنسان في الظروف الصعبة، والوقوف إلى جانبه، والتفريج عن كربه، وقضاء حوائجه، إنما يكون امتثالاً لأمر الله تعالى الذي أبلغ بأن ذلك إنما هو تقرّب إلى الله، وممارسة للفضائل التي يحض عليها الدين.

الحديث القدسي الذي يأتي بين النصوص المؤسسة للتضامن والتكافل هو: “حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثَنا بَهْرٌٌ، عن أبي رافع، عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:

إن الله – عزّ وجلّ – يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه؟ أما علمت أنك لو عُدْته لوجدتني عنده؟

يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟

يا ابن آدم، استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا ربّ، كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تَسقْه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي.”

أما النص المسيحي في إنجيل متى، فإنه يذهب المذهب نفسه لجهة أن قضاء حوائج الناس إنما هو تقرّب إلى الله تعالى الذي رفع الإنسان إلى مستوى لم يكن لغيره من المخلوقات، فمن قضى حاجات إنسان كأنما قضى حاجة لله تعالى.

النص الإنجيلي: “ثمّ يقول للّذين عن الشمال: إليكم عنّي، أيّها الملاعين، إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته: لأنّي جُعت فما أطعمتموني، وعطشت فما سقيتموني، وكنت غريباً فما آويتموني، وعرياناً فما كسوتموني، ومريضاً وسجيناً فما زرتموني.

فيجيبه هؤلاء أيضاً: يا رب، متى رأيناك جائعاً أو عطشاناً، غريباً أو عرياناً، مريضاً أو سجيناً، وما أسعفناك؟

فيجيبهم: الحق أقول لكم: أيما مرة لم تصنعوا ذلك لواحد من هؤلاء الصغار فلي لم تصنعوه.”   هذان النصان يبينان بشكل قاطع أهمية التضامن مع الجائع والظمآن والمريض والسجين، وسائر أصحاب الحاجات، وكيف أن من لم يقم بذلك مع إنسان كأنه لم يقم به مع الله تعالى نفسه. إن الكلام عن التضامن وفضائله في الإسلام والمسيحية كثير ولكن البحث لا يتسع لأكثر من هذه الإشارة.

لماذا الحرب

الإنسان منذ أبناء آدم الاول عليه السلام، إلى يومنا هذا تعرّض ويتعرض لأشكال من العدوان تتخذ وجوهاً متعدّدة منها العسكري، ومنها الإقتصادي، ومنها الفكري، ومنها الإعلامي، ومنها التربوي، ومنها القيمي الخلقي، وغير ذلك من أنواع المواجهات، لذلك تكون مواجهة التعديات والتحديات ضرورة تحتاج للاعداد والاستعداد.

والإنسان من أجل الحفاظ على حياته وانطلاقاً من دافع حب البقاء وحفظ النوع مارس الدفاع عن أناه عضوياً ونفسياً ليحفظ كرامته وحياته، فإنه كذلك احتاج إلى هذا الدفاع عن الذين ينتسب إليهم من الأسرة إلى الوطن، والأساس هو: لا مجتمع بلا منظومة دفاعية، ومعدات دفاعية؛ أي لا مجتمع بلا استعداد للحرب، وجاهزية لها.

لقد أكد ذلك عبد الرحمن بن خلدون في “المقدمة”، حيث قال: “ولما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره، وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كلّه الفكر واليد، فاليد مهيّئة للصنائع وبخدمة الفكر والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدّة في سائر الحيوان للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة… وإذا كان التعاون حصّل له القوت للغذاء، والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه، فإذن هذا الإجتماع ضروري للنوع الإنساني… ثمّ إن هذا الإجتماع إذا حصل للبشر – كما قرّرناه – وتمّ عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم.”

لم تخلُ حقبة من الزمن عالمياً من حروب متنوعة الميادين، وستبقى الحرب ماضية في حضورها، تتبدل ساحاتها وأنواعها ومقاصدها، ولكنها تبقى حاضرة بسبب شخصية الإنسان ودوافعه وحاجاته ومصالحه وأفكاره وانتماءاته. القول الفصل هو: “إن ظاهرة الحرب قابعة في جوهر السياسة في الإنسان، خالدة بخلوده، ومن ثمّ فإن اختفاءها مرهون بتدنيه إلى مستوى الحيوان، أو بارتقائه إلى طبيعة الآلهة.”

لن يكون الإنسان في مستوى الحيوان ولن يرقى ليكون ملاكاً، لذلك ستبقى الحرب ما بقي الإنسان. لكن الحروب منها ما يكون مشروعاً عندما تكون الحرب تحريراً للوطن والأرض من الاحتلال الأجنبي، أو عندما تكون من أجل ردع الظلم، والحفاظ على الحقوق. وتكون الحروب غير مشروعة عندما تكون أطماعاً وعدواناً متمادياً كما الحال بالنسبة للاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي في فلسطين المحتلة، أو الاستعمار الإحتلالي لبسط النفوذ واتباع الجشع والأطماع كما الحال بالنسبة للاحتلال الأمريكي للعراق، أو لسواها من البلدان، أو أنواع الحروب الإعلامية الافسادية التي تعمل لنشر الرذائل والمفاسد، أو الفتن وإثارة النعرات الطائفية أو العرقية… الخ.

أيّد هذا التقسيم الأستاذ الدكتور محمد المجذوب الذي قال: “تعتبر الحرب مشروعة إذا كان غرضها دفع اعتداء أو حماية حقّ ثابت واضح. وتعتبر غير مشروعة إذا كان الدافع إليها الرغبة في السيطرة، أو الفتح، أو استعمار الشعوب.”

فالحرب ضرورة من أجل الدفاع عن الدين والوطن والحقوق والاعراض وعن الإنسان نفسه؛ قال الله تعالى: “كُتِب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرُ لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.”

وكان الشاعر أحمد شوقي من خير من عبّروا عن مشروعية الحرب لمنع العدوان والظلم، حين كان يعدّد شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في همزيته المعنونة: “ولد الهدى”، وقد قال في بيت منها:

الحرب في حقّ لديك شريعةٌ                  ومن السموم الناقِعاتدواء

إن المخاطر، وأشكال العدوان، واغتصاب الأراضي والحقوق، لا يمكن مقاومتها وردعها بالضعف والتذلّل، بل بالإقتدار وامتلاك القوة فالحرب دفاعاً عن الحق شريعة وضرورة.

 

من قواعد الحرب في الإسلام بالمقارنة مع النصوص الاخري:

لأن الورقة المقدمة تتحدث عن التضامن من المنظور الإسلامي في حالات الحروب وكوارثها، فيكون الأمر المقصود هو القتال فقط، لأن الحرب – كما سبق القول – متعددة الأنواع والميادين، والقتال أحد أنوعها، وساحات القتال إحدى ميادينها.

إن التأصيل لمسألة القتال من النص القرآني له مادة وردت في أكثر من آية وأكثر من سورة، وما ذلك إلا دليل عن أن القتال من الأصول في العلاقات بين الأمم والجماعات والأفراد تماماً كما الصلح أو السلم أصل. والدليل الأول هو الآية السابقة الذكر: “كُتب عليكم القتال.” ولو أن القتال أمر عارض لما ورد على أنه سنّة كتبت على الناس و إن كرهها بعضهم فقد يكونوا غير موفقين، لأن الإنسان قد يكره أشياء ويكون فيها الخير كلّ الخير، والله تعالى أعلم.

والأمر بالقتال، وطرد الأعداء فيها قوله تعالى: “واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم”، وفي الآية نفسها:”فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين.”؛ وفي النصّ القرآني كذلك قوله تعالى:”فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم.” وقوله تعالى:”فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السّلم ويكفّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم.”

والقتال وفق التأصيل القرآني يكون في سبيل الله؛ أي من أجل الدفاع عن الدين والمقدسات، وعن الإنسان وما يخصّه، وعن الأرض والأوطان، وهذا القتال واجب، ومن لا يمارسه يكون قد فعل منكراً، ويكون قد ترك عباد الله من نساء و أطفال وأولاد ومستضعفين طعمة للعدو الظالم الغاشم. قال تعالى:”فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً. وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً.”

جاء عند القرطبي:”قوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله.) حضٌّ على الجهاد، وهو يتضمّن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس.

وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين، إما بالقتال، وإما بالأموال؛ وذلك واجب؛ لكونها دون النفوس.”

وقال تعالى:” إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.”

فأمر الجهاد وقتال الأعداء إنما هو تجارة مع الله تعالى، ومبايعة من المؤمنين لله تعالى، والأساس أن يبذل الإنسان وُسْعه، وأقصى جهده في مقاتلة الاعداء، ولهذه المواجهة اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.

الحرب من أجل الحقّ والعدل وردع العدوان واجب، وعمل مشروع، وهي استجابة لأمر الله تعالى. قال المرحوم الإمام محمود شلتوت:”اعترف الإسلام بالحرب واتخذها، حيث لا تنفع الحجة والبرهان، وسيلة لمكافحة البغي وردّ العدوان، وإزالة العقبات والقضاء على مفاسد الطغيان… اعترف الاسلام بالحرب في تلك الدائرة وجعلها ذروة سنامه، وأفرغ عليها صبغة جهاده في سبيل الله، يقيم بها العدل والميزان، ويمهّد بها سبيل الحياة الطيبة السعيدة.”

إلا أن الحرب في الإسلام لها قواعد وضوابط، وليس من أهدافها القتل أو الغدر، أو التنكيل، فلقد كان التوجيه النبوي كما في الحديث الشريف:”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرّ الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصّته بتقوى الله تعالى، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال له:

أغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً.”

وفي حديث نبوي آخر:” إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:

انطلقوا باسم الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلّوا، وصمّوا عنانكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين.”

وتأتي في هذا الباب خطبة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيش أسامة، وهو أول جيش أنفذه، ومنها ما يلي:

“لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له.”

لقد اجتمع خبراء ومندوبون عن دول عديدة، ورجال عسكر وقانون في جنيف عام 1949 بعد الحرب العالمية الثانية، وسطّروا عشرات الصفحات التي سمّيت:”اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب” وهي أربع اتفاقيات استغرقت صياغتها من 21 نيسان/أبريل إلى 12 آب/أغسطس من العام 1949، وما فيها لا يزيد عن هذه الكلمات القليلة التي وردت في خطبة أبي بكر رضي الله عنه إلى الجيش، ولكن التنفيذ عند جيش المسلمين كان دقيقاً لأن دافع التنفيذ والإلتزام ديني وبعد ذلك سياسي وعسكري وإنساني، وإتفاقيات جنيف كانت وستبقى حبراً على ورق والدليل أمامنا ما يمارسه العدو الصهيوني في الأرض المحتلة والقدس منذ العام 1948 إلى يومنا هذا، والدليل الآخر ما فعله ويفعله المحتل الأمريكي وحلفاؤه في العراق، والأدلة كثيرة من فيتنام إلى أفغانستان، وسائر أعمال القرصنة، والظلم والعدوان وزرع الفتن وأعمال القتل والإرهاب، ناهيك عن الممارسات العنصرية على امتداد العالم.

وبمقابل هذا التوجيه في خطبة أبي بكر الذي يوصي الجند بالأمانة، والمواجهة الواضحة دون غدر بأحد، وألا يأخذ مقاتل شيئاً خلسة، والإمتناع عن التمثيل أو العبث بجثث القتلى، هذا بالإضافة إلى حماية غير المقاتلين من الأطفال والنساء وكبار السن، فإن واجب المقاتل المسلم أن يحافظ على الثروة، والممتلكات، وأن يحمي الاقتصاد، وأن لا يذبح من المواشي إلا ما كان للحاجة، ويختم التوجيه بضرورة حماية حرية المعتقد، وحرمات المعابد والعبادات عند الآخرين.

فهل هذه القواعد لها ما يقابلها عند الآخرين كي تقوم علاقات سليمة بين الأمم؟ وهل ما يمارسه الغاصبون للأرض والمقدسات يقوم على نصوص فيها مثل هذه الأفاهيم والقواعد؟

نترك الجواب للفكر الديني الذي أسس للروح العدوانية العنصرية عند الصهاينة من يهود ومن غير يهود (المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية)، فقد جاء في نص من العهد القديم ما يلي:

“فاضرب سكان تلك المدينة بحدّ السيف، وحرّمها بكل ما فيها، واضرب بحدّ السّيف حتى بهائمها، واجمع غنيمتها كلّها إلى وسط ساحتها، واحرق بالنار تلك المدينة وغنيمتها كلّها تقدمة كاملة للرب إلهك، فتكون تلاًّ للأبد لا تبنى بعد.”

وفي نص آخر يقولون:

“وإذا تقدمت إلى مدينة لتقاتلها، فادُعها أولاً إلى السّلم، فإذا أجابتك بالسّلم وفتحت لك أبوابها، فكل القوم الذي فيها يكون لك تحت السّخرة ويخدمك. وإن لم تسالمك، بل حاربتك، فحاصرتها، وأسلمها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب كل ذكر بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك.”

نترك هذه النصوص بلا تعليق وهي قليل من كثير نصوص “العهد القديم” التي تنحو المنحى العدواني الاجرامي نفسه. وفي الانتقال إلى التلمود نجد النص التالي: “على يهود أن لا يفعلوا مع الوثنيين لا خيراً ولا شراً، وأما النصارى  فيسفكوا دمهم ويطهروا الأرض منهم… كنائس المسيحيين كبيوت الضالين ومعابد الأصنام فيجب على يهود تخريبها.”

ونص آخر من التلمود يقولون فيه: “أقتل الصالح من غير الاسرائيليين ومحرم على اليهودي أن ينجّي أحداً من باقي الأمم من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها لأنه بذلك يكون أنقذ حياة أحد الوثنيين.”

السؤال: هل هذه النصوص مضافة إلى مزاعم الشعب المختار وما تحمله من عنصرية واستعلاء، وما حصل من احتلال وقتل وتشريد وتدمير وعمل لتهويد المقدسات، تؤسس للحوار أو للاستقرار؟ وهل يكون مطلوباً غير القوة والمقاومة والمواجهة والحرب؟

 

أي تضامن في معالجة آثار الحرب؟ (فلسطين المحتلة نموذجاً)

يفهم بعضهم من التضامن في الكوارث، ومنها الحروب، أن الأمر هو توفير الحاجات المادية كالخيم أو البيوت الجاهزة للسكن، وبعض الأثاث المنزلي الخفيف، ومقادير من المواد الغذائية، أو تأمين وجبات جاهزة عند كل موعد للطعام، ومع ذلك مستوصفات نقّالة، أو مستشفيات ميدنية، ومن أنواع الإغاثة في الحروب العناية بالجرحى والمرضى، ومنه ما كان في رعاية مؤسسات التعليم من مدارس ومعاهد، وقد تصل الإغاثة إلى كفالة الأيتام.

كل هذه الأشياء تخفّف بعض المعاناة لكنها معالجة أشبه ما تكون باستخدام مسكّن للألم لمن يحتاج عملية جراحية. ومثل هذه الأنواع من الإغاثات لا تعيد حقاً سليباً، ولا تزيل قلقاً، ولا توقف حرباً، بل كلما طال زمن التشرّد والمآسي تتفعّل المقاومة، وتدوم نار الحرب ملتهبة.

ها هي حال فلسطين أمامنا. لقد بدأت عمليات المقاومة للاستعمار الصهيوني الاستيطاني الاحلالي قبل سنوات عديدة من قيام كيان العدو الصهيوني الغاصب لفلسطين عام 1948، وقدمت هيئات دولية وإقليمية أنواعاً من الاغاثات لأهل الأرض المحتلة في فلسطين أو سوريا أو لبنان أو الأردن أو غيرها من البلدان، فماذا كانت النتيجة؟

نحن الآن في العام 2009 ولنترك لصهيوني ليخبر عن الحال، هذا الصهيوني هو عوزي أراد، مستشار الأمن القومي، لرئيس حكومة العدو الحالي نتنياهو، والذي قال بتاريخ 16/7/2009: “مما يؤسف له أننا لم ننجح حتى الآن في أن نجعل العرب يستوعبون في قرارة أنفسهم حقنا في الوجود. في بعض الأحيان، يكون الرفض العربي والإسلامي الاعتراف بشرعية إسرائيل مكبوتاً وخافتاً، وفي أحيان أخرى يكون حاداً وعنيفاً، إلا أنه يشمل الجميع. لم ألتق بعد شخصية عربية قادرة على القول بهدوء ووضوح إنها تقبل بحق إسرائيل في الوجود، بالمعنى التاريخي، وفي أعماق الوعي، تبعاً لذلك، سيكون من الصعب التوصّل إلى إتفاق إسرائيلي – فلسطيني حقيقي يلغي الجزء الأكبر من هذا الصراع.”

وعند ما سئل أراد في المقابلة نفسها عن سبب تمسكهم بهضبة الجولان السورية، قال: “نعم… لأسباب استراتيجية، وعسكرية، وأخرى متعلقة بالإستيطان، ولحاجات متعلقة بالمياه، والمناظر الطبيعية، والنبيذ.”

وغاب عن أراد أن كل عربي سيبقى يقاوم، وإذا قصّر جيل، أو قصرت مجموعة فإن سواهم سيكمل مسيرة المقاومة والتحرير، وهم مرفوضون بسبب صهيونيتهم العنصرية الغاصبة المحتلة، وليس الأمر متعلقاً باليهودية. فيهود عاشوا مئات السنين بين العرب مسلمين ومسيحيين، وكانت علاقات المواطنة هي السائدة من المغرب إلى اليمن ومصر والعراق وسوريا ولبنان، وإلى إيران وتركيا وغيرها من البلدان، أما الوجود المرفوض فهو الصهيونية، ومن أراد التضامن مع يهود فعليه أن يخلصهم من الصهيونية، وأن يجبرهم على تنفيذ القرارات الدولية التي تدعو إلى الإنسحاب من الأراضي المحتلة، وفي قلبها القدس، وأن يكون ضمان لحق العودة لكل فلسطيني إلى داره وأرضه، وأن يوقف جدارهم للفصل العنصري، وتجريفهم للمزروعات وتهويدهم للقدس، وحفرياتهم وأنفاقهم تحت الأقصى، ومصادرة الأراضي والبيوت، وترك الأسرى الفلسطينيين الذين يتجاوزون أحد عشر ألف أسير بينهم مئات النساء ومئات الفتيان.

التضامن في هذه الكارثة يكون بطرد المحتل، ووقف إرهاب الدولة الذي يمارسه، ووقف كل جرائمه بما فيها ما هو ضد المقدسات الإسلامية والمسيحية، أما تشجيعه على التمادي فيزيد البلة طيناً، ويعقّد الأمور. لقد زار شمعون بيريز رئيس دولة العدو الصهيوني الرئيس المصري حسنى مبارك بتاريخ 7/7/2009 وفي ذلك اللقاء تحدث عن إن إسرائيل (الكيان الغاصب) ستكون يهودية، وهذا معناه ومفاده طرد مليون ونصف المليون عربي من الأرض المحتلة في فلسطين عام 1948، ومنع المشردين وهم سبعة ملايين وأربعمائة ألف فلسطيني من حق العودة. فهل هذا يوقف الحرب؟ وهل يكون الحلّ بكيس من الأرز والسكر، وعلبة من السمن أو من الدواء؟؟

وكان قد أعلن الموقف نفسه رئيس وزراء العدو نتنياهو في 14/6/2009، حيث قال في خطاب له: “لذلك فإن الشرط الأساس لانتهاء النزاع هو الإقرار الفلسطيني العلني، الملزم والصادق بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي.”

ما كان المو قف الأمريكي نن هذه المواقف التي تطرح دولة دينية يهودية؟

يأتيك الجواب من خلال هدايا الرئيس الأمريكي أوباما لنتنياهو وهي الموقف الذي أعلنه في القاهرة في خطابه إلى العالم الإسلامي في 4/6/2009 حيث قال ما حرفيته: “إن متانة الأواصر الرابطة بين أمريكا وإسرائيل معروفة على نطاق واسع، ولا يمكن قطع هذه الأواصر أبداً. وهي تستند إلى علاقات ثقافية وتاريخية.”

وهدايا أوباما الأخرى هي استكمال تمويل مشروع “حيتس”، وهي شبكة دفاعية ضد الصواريخ والمبلغ هو لهذا العام 800 مليون دولار “واعتبرت أوساط إعلامية إسرائيلية أن تمويل مشروع حيتس الجديد يعتبر هدية أوباما لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وتجدر الإشارة أن إدارة أوباما أحالت للكونغرس الأمريكي مؤخراً طلباً للمصادقة على تقديم كامل المساعدة الأمنية لإسرائيل كجزء من ميزانية العام 2010 وتبلغ قيمة هذه المساعدة 2775 مليون دولار.”

فهل هذا هو التضامن مع المصابين بالكوارث على يدي الصهاينة من الفلسطينيين؟ لا يحسبنّ أحد “الشحم فيمن شحمه ورم” كما قال الشاعر، فإن مجاملة حاكم أو متاجر بالكلمة وتذلّله لا يعني مطلقاً أن الظلم والعدوان يصنع حواراً أو سلاماً أو استقراراً. فالتضامن الحقيقي يكون بنشر العدل، ووأد الظلم، ويكون بإزالة الإحتلال وعودة كل مواطن إلى بلده الأصلي.

أما بالنسبة لليهودية فإن المنطق الذي يؤسس للحوار لن يكون ما يحمله الصهاينة العنصريون الغاصبون، ولا ما يحمله شركاؤهم من الصهاينة الأمريكان أو المحافظين الجدد، ولكن ما يؤسس للحوار هو المفاهيم اليهودية التي تدعو إلى التراجع عن العدوان، وأن يعيش يهود في بلدانهم الأصلية حسب انتماءاتهم القومية. هذا حاخام يهودي غير صهيوني هو موشية آري فريدمان من حاخامات ڤيينا في النمسا يخطب في تظاهرة ضد العدوان الصهيوني على لبنان صيف العام 2006، ومما جاء في كلمته بتاريخ 28/7/2006: “لقد تجمعنا اليوم هنا لنندّد أولاً بالهجمات الإرهابية الصهيونية البربرية على لبنان، وبمن يدعم تلك الهجمات من الغرب… إنني أمتنع عن وصف ما يحدث الآن في الشرق الأوسط بالحرب، كما يودّ البعض وصفه. فهناك من جهة دولة تمسّ سيادتها بدون أي سبب وبها حركة مقاومة شعبية لا شكّّ في حقّها في الوجود على أيّ حبّة من تراب الأرض المقدسة، لا تاريخياً ولا توراتياً على حدّ سواء، ولا يملك، بحسب تشريعات ديننا اليهودي مثل ذاك الحقّ وتلك الشرعية، بل وبالعكس تماماً، فكل يهودي مؤمن يرى الكيان الصهيوني كأكبر عصيان لإرادة الله. هذا الكيان الذي قاد إلى واحدة من أكبر الكوارث في تاريخ البشرية جمعاء، وما زال يقود إلى الكوارث. إن الصهيونية هي أكبر خيانة لديننا اليهودي، وأكبر خيانة لإخواننا في الإيمان من المسيحيين والمسلمين أيضاً. إن أي اعتراف بالكيان الصهيوني، سواء كان مباشراً أو غير مباشر، يتعارض كلياً مع الديانة اليهودية.”

وختم الحاخام فريدمان خطابه قائلاً: “نحن نصلّي ونأمل أن يأتي الحلّ سريعاً، إن شاء الله، وأن يتلاشى الكيان الصهيوني بالكامل،… كما ونصلي أن يتمّ في المقدمة تحرير كامل فلسطين، ونصلّي من أجل قدس محررة من الصهيونية.”

إن تنفيذ كلام الحاخام موشية آري فريدمان المواطن النمساوي الموجود في ڤيننا وعمره دون الخمسين سنة، وإزالة الكيان الصهيوني وتحرير القدس من الصهيونية يؤسّس للحوار بين أتباع الإسلام وأتباع المسيحية، وأتباع اليهودية، والوضع الكارثي الذي صنعته الصهيونية وتصنعه كل يوم في فلسطين بشراكة غربية وأمريكية سيجر إلى مزيد من العنف، والقاعدة في الإسلام ما جاء في النص القرآني: “وأخرجوهم من حيث أخرجوكم.”؛ وكل غير ذلك إنما هو مخدّر لا يقنع أحداً وما يقوم به بعضهم بعد كل عدوان من أشكال الدعم المادي لبعض الحاجات المعيشية لا يمكن تصنيفه في باب التضامن الذي يعالج حالة كارثية.

وبالنسبة للدول العربية –خاصة تلك التي تجنح إلى التطبيع مع القاتل – فإننا نقول لها: إسمعي غير الصهاينة من أتباع اليهودية ومن نماذجهم نعوم تشومسكي، وإسرائيل شاهاك، والحاخام موشية آري فريدمان الذي ورد كلامه في سياق هذا البحث قبل أسطر.

ثم إن التضامن العربي مع فلسطين والقدس يقوم على تطبيق المواثيق الاقليمية إذا كان الأمريكي قد عطل قرارات ومواثيق المؤسسة الأممية في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل واليونيسكو.

لقد صدر “الميثاق العربي لحقوق الإنسان” بقرار من مجلس جامعة الدول العربية رقمه (5427) بتاريخ 15/9/1997، وفي المادة الأولى منه في الفقرة “ب”، ما يلي: “إن العنصرية الصهيونية والاحتلال والسيطرة الأجنبية هي تحد للكرامة الإنسانية، وعائق أساسي يحول دون الحقوق الأساسية للشعوب، ومن الواجب إدانة جميع ممارستها، والعمل على إزالتها.”

كما أن الاتفاقية العربية التي أقرها وزراء الداخلية العرب ووزراء العدل بشأن مكافحة الإرهاب تحت عنوان: “الإتفافية العربية لمكافحة الإرهاب”، وكان إقرارها في 22/4/1998 نصت في المادة الثانية في الفقرة “أ”، على ما يلي: “لا تعدّ جريمة، حالات الكفاح بمختلف الوسائل، بما في ذلك الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي والعدوان من أجل التحرير وتقرير المصير، وفقاً لمبادئ القانون الدولي.”

إن التزام هذا المواثيق العربية ومنها ميثاق الدفاع العربي المشترك يقتضي احتضان المقاومة والإعداد للمعارك والحروب من أجل التحرير وهذا هو التضامن الحقيقي.

تأسيساً على ما تقدم، يكون التضامن ضد الكوارث التي أصابت وتصيب الفلسطينيين خاصة والعرب عامة ودول جوار فلسطين جرّاء الاحتلال الصهيوني والعدوان، بأن تردّ الحقوق إلى أهلها، وأن تتم إزالة الصهيونية العنصرية إنقاذاً لأتباع اليهودية من خطرها قبل سواهم.

 

التعاون بين الدفاع والهجوم من منظور إسلامي

عمد عدد من أصحاب الأقلام، أو من رواد المنابر والشاشات الصغيرة، في الآونة الأخيرة إلى نشر مقولة مفادها؛ إن الإسلام لم يدعُ إلى القتال إلا حال الدفاع، وذهب بعضهم إلى أن الجهاد إنما هو أما جهاد ضد النفس وشهواتها، أو جهاد بالكلمة، وقالوا كذلك: إن الأصل في الإسلام هو السلام. كل هذه المقولات ومثلها إنما كان الغرض منه استرضاء بعض الغرب، وبشكل خاص بعد ماجريات نهار 11/9/2000.

الحقيقة هي أن الإسلام أصّل للسّلم وحدد قواعده ومقاصده، كما أنه أسّس وأصّل للحرب وللقتال، ووضع لهما المقاصد والقواعد والضوابط. ودعا الإسلام للجهاد في الذات تهذيباً وضبطاً، ودعا للجهاد ضد الأعداء.

إن مراجعة النصوص القرآنية، ومعها السيرة النبوية الشريفة والأحاديث النبوية تبيّن  ذلك بشكل جلي لا لبس فيه. فقد طالب الإسلام أتباعه بالاعداد وامتلاك القوة لمواجهة العدوان، وإن حصل ولم يكن هناك عدو ظاهر، فالإسلام كذلك أمر بالاعداد لأنه قد يكون هناك أعداء غير ظاهرين الله تعالى يعلمهم. قال: “وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون.”

والإعداد العسكري تدريباً وعتاداً وسلاحاً يحتاج الأمر معه إلى الإعداد النفسي لأن الحالة التي يكون عليها الفرد العسكري أساسية في القتال لذلك كان الأمر بالحشد والتعبئة المعنوية، وهو التحريض. قال تعالى: “يا أيّها النبي حرّض المؤمنين على القِتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم لا يفقهون.”

المواجهة تستدعي الامكانات ذاتاً ومادياً، وهذا ما طالب به الإسلام بأن يكون الجهاد والقتال بالمال والنفس، والمؤمن يكون مستعداً دوماً لإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، بذلك إمّا أن يقتل العدو، أو أن يقضي شهيداً في سبيل الله، وفي الحالين يكون للمجاهد الفوز العظيم في الآخرة. قال تعالى: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.”

ومن الأحاديث النبوية في هذا الباب: “عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وبماله في سبيل الله تعالى.”

وإذا كان الجهاد فرض فهو نوعان:

  • جهاد الطلب وهو الذي يخرج فيه بعض أهل الأمة إلى القتال، وهو فرض كفاية، إن قام به بعض الأمة سقط عنها جميعاً.
  • جهاد الدفع وهو الذي يكون حال دخول العدو الديار واحتلال الأرض كحال العرب والمسلمين اليوم مع الصهيوأمريكان، وهنا يكون الجهاد “فرضاً عاماً متعيناً على كل احد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الاحرار، وذلك أن يحلّ العدو بدار الإسلام محارباً لهم، فإذا كان ذلك، وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً وشباباً وشيوخاً.”

ويصل دور السؤال: هل القتال حالة دفاعية فقط؟ لقد جاء ما يفيد ذلك في النص القرآني وإليه استند من قال أن الحرب في الإسلام تكون دفاعية فقط، والحكم من الآية الكريمة: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.”

ولكن بعضهم لم ينتبه إلى نص قرآني آخر جاء يحضّ على الهجوم والإغارة، لأن أحسن أساليب الدفاع هو الهجوم. قال تعالى: “والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً.”

فالعاديات هي خيل المؤمنين الغزاة التي تعدو بهم باتجاه العدوّ، وهذه الخيل توري النار بحوافرها، وبعدها تكون الإغارة على الأعداء صباحاً ليؤخذ العدو بغتة.

وما كان بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كله غزوات قادها بنفسه، أو سرايا بعثها بإمرة أحد الصحابة. وقد بلغت السرايا 55 سرية والغزوات 27 غزوة قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً في 9 منها هي: بدر الكبرى، وأُحُد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وكانت كلها هجومية وكانت غزوتان دفاعيتان فقط هما: أحد والخندق أوالأحزاب.

نصل مما تقدم إلى القول: إن المواجهة ضد الأعداء ليست لها حالة واحدة بل حسب الظروف وطبيعة المعركة، وحسب الإمكانات المتوافرة لخوض المعركة. وقد تحدث عن ذلك الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في قوله:

” – قد تكون الوسيلة لظرفٍ ما، المسالمة وبثّ النصيحة والتعليم والإرشاد، وعندئذ لا يفسّر الجهاد إلا بذلك.

  • وقد تكون الوسيلة بظرف آخر، الحرب الدفاعية مع النصح والارشاد والتوجيه، وهذا هو الجهاد حينئذ.
  • وقد تكون الوسيلة المتعينة لظرفٍ آخر، الحرب الهجومية، فهي عندئذ ذروة الجهاد وأشرفه.

…وهذا يعنى أن جميع هذه الوسائل الثلاث مشروعة في تحقيق الجهاد.”

إن تمادي أعداء العرب والمسلمين على البشر والحجر والمقدسات، وهم داخل الديار قد احتلوا واغتصبوا، كل ذلك لا ردع له بغير المقاومة والقتال، وأحسنه الهجوم لزرع الرعب والبلبلة في صفوف الأعداء، وقد وجهت إلى هذا الآية الكريمة: “سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان.”

ونختم بما قاله أحمد رابت عرموش حول القيادة النبوية، وهو الأصل: “التعرّض؛ يمكن أن نسميه المبادأة، ونقصد به مبادرة العدو بالقتال: فالمهاجم غالباً هو صاحب النصر، وهناك قول مأثور أو قاعدة عامة في القتال تقول: الهجوم وسيلة للدفاع، وهي بمعنى قول الإمام علي رضي الله عنه: ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذُلّوا، ويقتصر نصر المدافع على منع المهاجم من تحقيق أهدافه فقط، بينما يعمل المهاجم بشكل إيجابي على تحقيق أهدافه ومن استعراض حروب الرسول كلها نجدها تعرّضية (هجومية) ما عدا غزوتين فقط هما: أحد والخندق.”

وإذا كان الحديث على التضامن لمواجهة كوارث الحروب فإن التضامن الحقيقي مع فلسطين، وهي النموذج الذي اخترناه، إنما يكون بتوفير كل أساليب الدعم لجبهات المقاومة، وذلك من أجل تحقيق التحرير وإزالة كل أشكال الاحتلال والعدوان، وكل عمل يأخذ من التضامن في ساحات القتال ولا يعطي للمعركة شيئاً قيمته لا تعلو عن الصفر.

 

توصيات واقتراحات

  1. إن التضامن الإنساني في مواجهة كوارث الحروب يكون بردع المعتدي، وإزالة الإحتلال حيثما وقع، ومنع الظلم والعدوان، وليس التضامن حبيبات أرز أو سكر، أو بعض الأثاث المنزلي، أو الملابس.
  2. يحتاج العدوان على فلسطين إلى تضامن إنساني عالمي ضد الصهيونية بوصفها حركة عنصرية صاحبة مشروع استيطاني احلالي، وقد اغتصبت أرضاً وحقوقاً ودنست مقدسات وتتطلع إلى التوسع، وردعها أساسي من أجل التضامن وإزالة آثار عدوانها، والقضاء على مشروعها الاستعماري. لا مشكلة للمسلمين أو المسيحيين مع اليهودية، والمشكلة كل المشكلة مع الصهيونية ولأن عدداً غير أساسي من يهود هو خارج الصهيونية، فإن يهود جميعاً يدفعون ثمن المشروع الصهيوني.
  3. إن العالم مع مرور العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد دفع أثماناً كبيرة بفعل التطلع إلى الإنفراد بقيادة العالم، أو الأُحادية القطبية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن يقودونها من المحافظين الجدد الذين يشتركون في نقاط كثيرة مع الصهيونية، وبالتالي فإن التضامن الإنساني المطلوب هو تشكيل تحالف دولي ومعه المؤسسات الاهلية لوضع حدّ لهذا التمادي، هذا مع إزالة أنواع الاحتلال من العراق إلى أفغانستان وسواهما، وإخراج القواعد العسكرية، وقطع أصابع الفتنة الأمريكية التي نتحرك تحت ستار الطائفية أو العرقية، ويحتاج الموقف الأمريكي كذلك أن يوقف شراكته الكاملة مع الصهيونية ودعمه المطلق لها، فالتضامن ليس بأن يحتل الأمريكي ويهدد ويتدخل ويسلب، وبعدها يرسل بعض طعام لضحاياه، فهذا لا يولد سوى الحروب، وردات الفعل غير المحمودة النتائج.
  4. برزت في السنوات الأخيرة ظواهر من التعصبات الرديئة وحالات الغلوّ والفئوية والتطرف عند المسلمين وهذه كلها غير المقاومة. فالمقاومة فطرة وضرورة ومشروعة، أما الظواهر التي ذكرناها فإنها لا تتناسب مع جوهر الإسلام دين الرحمة، وهذا يقتضي أن يتصدى العلماء ومؤسسات المجتمع الأهلي جميعها مع الجهات الرسمية لمعالجة الامر برد الأمور إلى نصابها، وتصحيح الأفاهيم الخاطئة.
  5. ظهرت في السنوات الأخيرة ظواهر تعصبية عند المسيحيين منها ما كان من المؤسسات الرسمية كإصدار قانون في شهر شباط/فبراير 2004 في فرنسا بشأن الحجاب ومنعه على الطالبات، أو ما كان عبر وسائل الإعلام في الدانمرك وسواها، ومنها ما كان من خلال مجموعات شبابية تعتدي على العرب والمسلمين وقد حصل ذلك في ألمانيا وفرنسا ومؤخراً أو ظواهر تعصب غذّاها الأمريكي وحلفاؤه وأتباعه في ساحات مصر ولبنان وغيرها وكانت لها نتائج سلبية. لا بد من موقف مسيحي يلتزم ما أصدرته الكنائس وأبرزه ما كان في قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن العلاقات مع المسلمين في العام 1965.
  6. إن الحوار يحتاج أن يتخذ عنواناً هو: “حوار أتباع الاديان والمعتقدات”، لا حوار الأديان، فمن يتحاورهم أتباع الأديان، والحوار لا يكون في العقائد والعبادات وإنما فيما يسمى المشترك الإنساني أو القيم الناظمة للعلاقات في المجتمع. هذا يحتاج إلى توسيع دائرة الحوار وأن يقترن بجوانب عملية ينظّر لها أهل الفكر. لا حوار مع الظلم والاعتداء ولا حوار مع محتل أو قاتل.
  7. يلاحظ أن بعض المؤتمرات والمراكز تقف بالحوار عند حدود الإسلام والمسيحية واليهودية وإذا كان أغلب من يتبعون اليهودية وهم بالأصل بحدود 14 مليوناً من الصهاينة والحوار لا يجدي معهم بل الواجب هو ردعهم وتفكيك منظمتهم الصهيونية، فإن هذا الحوار قاصر، ولا بد من تصحيح مساره ليشمل أتباع العقائد الأخرى في الشرق والجنوب الآسيوي مع الإشارة إلى أن سكان العالم بحدود 7 مليارات ويمثل هؤلاء منهم أكثر من 3 مليارات، فلا يصح لمؤتمرات الحوار الجادة أن تغفل هذا القدر الكبر من سكان العالم من البوذيين والهندوس والكنفوشيين والشنتويين والسيخ.
  8. إذا بقيت بعض مراكز الحوار ومؤتمراته عند حدود إرضاء واسترضاء هذه القوة النافذة عالمياً، أو هذه السلطة، أو هذا الحاكم أو ذاك، فإن عملها لن يجدي نفعاً. فالعالم والمفكر الفاعل في المراكز والمؤتمرات هو الذي يقول كلمة الحق ويجهر بها من أجل إنقاذ البشرية جمعاء.

البشرية في سفينة مهددة بالغرق بسبب إجرام وظلم بعض من فيها، فإن أخذ الباقون على يدهم، وأوقفوا ظلمهم نجا الجميع، وإن تركوهم يعبثون ويعربدون، فالسفينة ستغرق بالجميع.

 

مضمون قد يهمك
أضف تعليقا