الشدائد تصفي الصداقات وتنقيها

قسم: معلومات عامة الشدائد تصفي الصداقات وتنقيها » بواسطة عبد الرحمن - 1 يناير 2022

قالت الأم:

عندما أُصبتُ بسرطان الثدي في عام 2009م كان الابتلاء عظيماً لكنني استطعت بحمد الله أن اجتاز المحنة وكانت ابنتي خير صديقة لي وزادت الشدائد قوة صداقتنا.

يمر الإنسان عادة بتحديات ومشقات مفاجئة يحتاج فيها إلى صديق يفضي إليه أحزانه وصديق يشعر بأحاسيسه، ويصبره، ويبصره وإلا أصبحت الصداقة عديمة الجدوى. الابنة العطوفة الرؤوفة خير عدة في النوائب لا تفارق والدتها لا سيما ساعة الشدة وتمدها بحبال الصبر، والاحتساب، ومضاء العزيمة، وتقدم كل ما تملك من وقت ومال وحكمة لتخفيف شدة المشكلة، وتفريج الكربة. الشدائد مهما كانت عاتية لا تسلب الإنسان السعادة إلا عندما يقبل التنازل عنها. هذه الفلسفة الإيجابية تجعلنا نواجه الشدائد اليومية بصف مرصوص يعضد الروابط الإنسانية وبقلوب راضية بقضاء الله وقدره. وهكذا يعيش الصالحون سعداء في حياتهم لأنهم عرفوا سر السعادة التي تسكن بشاشتها القلوب ولا تستطيع الشدائد نزعها، هؤلاء هم أطيب الناس عيشاً, وأحسنهم خلقاً.

البنت الصديقة لأمها ذات عاطفة متوهجة، وعقل رصين لعاطفتها المتوهجة، وعقلها الرصينتشرح الصدر بكلماتها عن خلق الصبر وحسن العاقبة ولا تزيد نيران الأحزان لأن الجزع عند المصيبة، مصيبة أخرى (The panic from a catastrophe is another catastrophe ). إن فن تهدئة الأعصاب في الأزمات خلق كريم يضيئ سماء الصداقة. الغم سجن نفسي يسجن فيه الإنسان نفسه بمحض إرادته عندما يمر بمرحلة حياتية عصيبة في حين أن قوة الإيمان تحمي القلوب من طغيان الأحزان، وطوفان الأشجان. البنت الذكية تفتح نوافذ الرجاء ولا تغلق منافذها إذا اشتعلت الشدائد. كلنا بحاجة إلى التذكير بأن الإنسان يثاب على كل أوجاعه وهمومه وأحزانه فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ” (رواه البخاري). وقال: “عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلُّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ” (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). الصديق العاقل يقف مع صاحبه فيُصبِّره ويحميه من لفحات اليأس وأجواء الضياع والقلق. قال الشاعر

سَوادُ الليلِ يَعقُبهُ بَياضٌ    وهُوجُ الريحِ يَعقُبُها النسيمُ

التحديات تولد لدى المسلم قوة جديدة وحركة موجهة هادفة وحسا ساميا للتغلب على صعوبات الحياة ومصائبها بصلابة فولاذية. هكذا تتحسس التربية الإسلامية حاجات الناس وتقدم مسالك عدة للنهوض بهم وتوجيهم نحو التقدم والارتفاع بأسلوب تعليمي وعبر خطوط الأخوة وعمود القرابة والصداقة كي تصبح الحياة أكثر أماناً وتلزم الفرد بالوقوف إلى أخيه مساندا له يثبته على الصبر الجميل والعمل الجليل. إن فن الرثاء والبكاء نوع من الاستسلام والهزيمة والتبرير عن التقصير في أداء الواجب وحيلة دفاعية لاستمرار الواقع والخضوع له. هذا فن يحسنه كثير من الناس فيعيشُ الإنسانُ عصره بمشاعر تعصرُهُا الذكـريات الأليمة تحمل ثقل الليالي الخوالي ويبكي اليائس على أساهُ الطويلِ ويندب بلا ملل حظه العاثر وفي هذا السياق السلبي تقول الشاعرة نازك الملائكة:

هكذا يرحل الربيعُ سريعاً
وتموتُ الآمالُ في كل قلبٍ
فكأنّ الحياةَ لم تبتسم إلاّ
وكأن الزهورَ لم تنشرِ الأشـ
  وتعود الحياةُ للأحزانِ
وتعيشُ النفوسُ للحرمانِ
لتُلقي سوادَها في رؤانا
ـذاءَ إلا لكي تُثيرَ أسانا

والحق أن الإنسان اليائس يضيع جهدا، ويضيق واسعا، ويفهم متأخرا، ويشتت جهدا فلا يفيق إلا بعد أن رسخ في أبنائه وبناته لفحة حزن، وغرس في الناشئة مسحة كآبة وتشاؤم بسبب همه المتواصل. كلما تأخر علاج القنوط زاد خطره وعم ضرره. الإنسان الذي يضخم نوائب الدهر يندم، والإنسان الذي يصبر ويحتسب يغنم ويتعلم وينعم. صداقة الأم تتطلب منا التمكن من فن التعامل مع مشكلات الحياة وطرق ملازمتها لتخفيف مصابها لا تضخيمها. وصدق الشاعر:

إذا ضيّقت أمراً ضاق جدّاً
فلا تهلك لما قد فات غمّاً
  وإن هوّنت ما قد عزّ هانا
فكم شيء تصعّب ثمّ لانا

يعلمنا الحديث النبوي مجموعة أدعية مباركة تعيننا على تجاوز المحن منها “مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهمَّ أجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلاَّ أَخْلَفَ الله لَهُ خَيْراً مِنْهَا” (رواه مسلم). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ “لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ” (رواه البخاري). “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ” (رواه البخاري).”اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلاَّ ما جَعَلْتَهُ سَهْلاً، وأنْتَ تَجْعَلُ الحَزْنَ إذَا شِئْتَ سَهْلاً” (رواه ابن السني). “وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّيْ فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ” (رواه مسلم).

الصديق الوفي يحبك ويكون بقربك سندا وكما يقول سلمان العودة “لا أريد أن تحدثني في موضوع مهم أو غير مهم يكفي أن تكون بقربي وأن أشم أنفاسك وأتأمل ملامحك لأحس أن روحي المبعثرة تلتئم من جديد”.

الشدائد التي تواجه الأم من مرض أو غيره ليست عذرا لإهمال دراستنا أو التهرب من أعمالنا فهذه حيلة دفاعية تضرنا، فلزوجك عليك حقا، ولأبنائك عليك حقا، ولعملك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأمك عليك حقا والتوفيق بين كل ذلك أمر ممكن بعون الله سبحانه.

مضمون قد يهمك
أضف تعليقا