ما هي أصول العلوم المعرفية ومرجعياتها النظرية

قسم: علم النفس والأجتماع ما هي أصول العلوم المعرفية ومرجعياتها النظرية » بواسطة محمود الاسوانى - 16 مارس 2022

أصول العلوم المعرفية ومرجعياتها النظرية

الواقع أن علوم المعرفية لم تحظ بعد بتأملات تذكر في مجالات استحضار أصولها التاريخية واستنطاق تراكماتها المعرفية. فمن جهة، قليلة هي الدراسات التي عملت على استحضار تلك الأصول وعلى رصد تلك التراكمات. ونقصد هنا بشكل  خاص كتابات  كل  من Gardner (1985) عن تاريخ  الثورة المعرفية و Tiberghien (1989)  عن

السيكولوجيا المعرفية وعلوم المعرفية ثم Rastier (1991) عن الدلالية والبحوث المعرفية. ومن جهة أخرى فإن مثل هذه الكتابات، ورغم أهميتها، لا تمثل حصيلة تاريخية شاملة لمختلف مراحل ظهور هذه العلوم وأصورها النظرية (Rastier، 1991: 25).

والحقيقة أن الإصرار على التشخيص بالمحاكاة simulation للسيرورات العقلية معلومياتيا، يشكل السبب الكامن وراء التقييس الأولي خلال الأربعينيات من هذا القرن للعلم المعرفي.

فالحاسوب يمثل في نظر أغلب الباحثين الجهاز المستحدث الوحيد الذي ينبني عليه هذا التأسيس. فعن طريقه سيتم نسبيا تمييز الرواد الأوائل أمثال Babbage وShannon الذي اقترح سنة 1973 تمثيل القوانين المنطقية للفكر بواسطة موصلات إلكترونية

ثم Wiener وVon Neuman. فآلات الفريق الأول كانت تفتقر إلى الدوران في حين أن آلات الفريق الثاني كانت تدور، وبالتالي فمنذ ذلك الوقت والنقاشات تدور حول ثلاثة محاور أساسية هي على التوالي

الحاسوب l’ordinateur والذهن l’esprit والدماغ le cerveau. وإذا كان لكل محور من هذه المحاور ارتباط معين بالمعلوميات والمنطق والنوروفيزيولوجيا فإن علمي اللسانيات والنفس

ورغم إقصائهما من هذا الثالوث، فإنهما وكما سنرى ذلك لاحقا، قد لعبا دورا فعالا في ظهور ما يسمى بعلوم المعرفية. ويمكن تمثيل هذا الثالوث على النحو التالي (Rastier، 1991: 28-29).

الأول معرفاني cognitiviste: يفضل العلاقات بين الذهن والحاسوب ويضم الذكاء الاصطناعي في شكله الكلاسيكي ويمثله حاليا باحثون أمثال Chomsky وFodor وPylyshyn.

الثاني اقتراني connexionniste: وهو مناقض للأول، يفضل العلاقات بين الدماغ والحاسوب، بحيث أن المطلوب من هذا الخبير، في برامجه وهندسته، أن يومئ ويشخص الدماغ الذي يمثل القطب الغالب في هذا النموذج.

تبعا لهذا التحديد، لابد من الإشارة إلى أن مصطلح “علم معرفي” قد استعمل أول مرة سنة 1975 في العنوان الفرعي “دراسات في العلم المعرفي Studies in cognitive science” للمنشور الذي أصدره كل من D.Bordow وA.Collins

وبعد ذلك بسنتين أصدر فريق من الباحثين، يضم معلوماتيين وسيكولوجيين ولسانيين، مجلة بعنوان “العلم المعرفي”. وإذا كانت جمعية “العلم المعرفي” قد عقدت في Fanfare أول اجتماعها سنة 1979

فإن الجمعية من أجل البحث المعرفي قد أنشئت في فرنسا سنة 1981 بمبادرة كل من D.Kayser وJ.F.LeNy وA.Lentin على الخصوص. وهكذا

بدأ الكل يتلذذ بالثورات العلمية كل خمس سنوات تقريبا في مجال هذا المولود الجديد الذي لا يتوقف عن التطور والانتشار السريعين منذ ظهوره على شكل حقل علمي قائم الذات (Rastier، 1991: 30).

إذن، إذا كانت تلك هي الأصول الأولية لتأسيس ما يسمى اليوم بالعلوم المعرفية فإن هذه الأخيرة تشكل في نظر أغلب الباحثين نتيجة ثورة إبستيمولوجية ثلاثية البعاد والتي أثرت على التوالي في السيكولوجيا واللسانيات والمعلوميات، هذه العلوم التي تشكل النواة الصلبة للعلوم المعرفية.

فالسيكولوجيا العلمية قد عاشت على امتداد ما يقارب نصف قرن من الزمن تحت سيطرة علم نفس السلوك الذي لم يكن يهتم إلا بدراسة السلوك الظاهر وبتوضيح العلاقات الوظيفية بين تغيرات الوضعيات وتغيرات الاستجابات الناجمة عن تصرفات الكائنات الحيوانية والإنسانية على حد سواء.

فالظواهر العقلية لم تكن تحظى بأي موقع في هذا الاهتمام، بل كانت مقصاة بدعوى تفادي مجمل الأخطاء التي وقعت فيها السيكولوجيا الاستبطانية.

لكن الملاحظ هو أن طريقة النظر إلى السيكولوجيا قد تغيرت بشكل كامل خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بحيث أن السيكولوجيا المعرفية، ودون تخليها عن لزوم الموضوعية وصرامة الميتودولوجيا التجريبية

قد اقتنعت بالتدريج على أن السيكولوجيا العلمية لا يمكنها أن تكتفي بالتجميع والتركيب الصوري للعلاقات الوظيفية المتصلة بالوقائع والأحداث الملاحظة.

فالسلوك والمثيرات التي تثيره لا يمكنه أن يشكل غاية في حد ذاته، بل عليه أن يشكل نقطة انطلاق لبلوغ حقائقه المفترضة غير الظاهرة من قبيل: التمثل la représentation، المعرفة la connaissance، القصدية l’intentionnalité والوعي la conscience. وهكذا فإن التفسير العلمي في مجال السيكولوجيا العلمية

لا يجب أن يخشى إعداد بناءات افتراضية ومتغيرات وسيطة، خاصة إذا كانت هذه البناءات والمتغيرات قادرة على إعطاء معنى للعلاقات الوظيفية المنشأة موضوعيا حتى الآن بواسطة المنهج التجريبي.

فالثورة الإبستمولوجية في الحقل السيكولوجي تتمخض عن هذا الانتقال من الملاءمة النظرية لمفهوم السلوك إلى مفهوم المعرفة (Tiberghien، 1989: 14).

ومثلما كان الأمر بالنسبة للسيكولوجيا العلمية، فإن ثورة إبستمولوجية أخرى قد أثرت في اللسانيات. فاللغة الإنسانية التي تشكل الخاصية الفريدة لدى الإنسان قد اكتست أهمية متميزة ضمن التصورات العلمية الحديثة، لقد اهتمت اللسانيات أساسا بالبنية التركيبية للخطاب واقترحت في هذا النطاق صورنات مختلفة يمثل فيها النحو التوليدي لصاحبه Chomsky النموذج الصوري الأكثر تداولا وانتشارا. فإلى جانب البنيات السطحية القابلة للملاحظة

توجد البنيات العميقة التي تحكم البنيات الأولى وتحددها. وهكذا فإذا كان التمييز اللساني بين كفاءة compétence وسلوك comportement، فإن الثورة اللسانية كانت بمعنى من المعاني ثورة صورية formaliste تسلم بأن الواقعي يمكن ترميزه وتفكيكه عن طريق التوظيف الجيد لقواعد الاستكتاب règles de réécritures. غير أن مقترحات النحو التوليدي لم تكن سوى علامات ومؤشرات تبشر بتجديد نظري أكثر تطرفا.

بالفعل إن تطبيق التحويلات التركيبية المقرونة بفهرسة معجمية بسيطة قد أظهرت محدوديتها كطريقة لتبيان تعقدية الإنتاجات اللغوية وفهمها. فهذه الإنتاجات تستلزم أيضا الأخذ بعين الاعتبار وحدات للتأويل أكثر تعقيدا من المداخل المعجمية البسيطة. فالفهم يتولد بدون أدنى شك عن سيرورة التحليل الدلالي والتداولي وهو التحليل الذي يحيل إلى المعرفة التي لدى المتكلم عن نفسه وحول العالم. وهكذا فقد اتضح أن تفسير اللغة لن يتأتى إلا باعتماد مفهومي التمثل والمعرفة (Tiberghien، 1989: 15).

أخيرا إن المعلوميات نفسها ستتعرض لتحول كبير خلال العقدين الأخيرين بحيث أنه إذا كانت تشكل قبل كل شيء تكنولوجيا لاستعمال المعلومات الرمزية وتتوفر على منهج هو المنطق الرمزي وتعاني نقصا على مستوى الموضوع، اللهم إذا تم اعتبار المعلوميات نفسها كموضوع للمعلوميات، فإن الثورة الإبستمولوجية في المعلوميات ستعمل على إيجاد موضوع لها يتمثل في شيء آخر غير المعلومات أو الأخبار المتعددة الأشكال.

وهذا الموضوع سيتحدد في المعرفة نفسها وليس في هذه الصورنة المنطقية-الرياضية للمعرفة أو تلك. ويمثل التطور السريع للذكاء الاصطناعي حصيلة ومحرك هذا التغير الجوهري لوجهة النظر؛ إذ أنه إذا كانت المعلوميات النظرية التقليدية تتخذ أي برنامج كتطبيق لوغاريتمي على المعطيات، فإن الذكاء الاصطناعي سيتخذ النظام الذكي كنتيجة لتطبيق آليات الاستدلال على المعارف أو على معطيات مبنينة. فالغاية القصوى للذكاء الاصطناعي تتجلى إذن في بناء نماذج معلوماتية للمعرفة؛ الأمر الذي يبرهن على أن المعرفة تشكل هنا أيضا محركا للثورة المعلوماتية مثلما كان الشأن بالنسبة للسيكولوجيا واللسانيات (Tiberghien، 1989: 16).

إن التقارب بين هذه الثورات الإبستمولوجية الثلاث قد أدى إلى تحول هام في التفاعلات بين تخصصاتها التي أضحت تشترك في الاستفهامات النظرية والتجريبية بخصوص مفهوم المعرفة. ففضلا عن كون هدفها الأساسي يتمثل في إعداد نظرية عامة عن المعرفة كيفما كانت أشكال تحققها فهي تعتبر أن دراسة بنية الذكاء وخاصياته الوظيفية يمكنها أن تساعد على بناء أدوات اصطناعية قليلة لتشخيصها وإغنائها

وتعتقد أن هندسة هذه الأنظمة الاصطناعية للمعرفة تسمح بالفهم الجيد لذكائنا الخالص وبتطويره وربما بخلق علاقات تواصلية جديدة بين الإنسان وإنتاجاته الاصطناعية. هذا هو مطمح علوم وتكنولوجيا المعرفة التي يشارك فيها حاليا باحثون كثيرون قلما يولون أهمية معينة للحدود والفواصل القائمة بين تخصصاتهم الأصلية، بحيث أن التأثيرات المتبادلة المتولدة عن التفاعلات بين هذه التخصصات هي التي تشكل بدون شك الرافد الأساسي لظهور ما يسمى بعلوم المعرفية.

مضمون قد يهمك
أضف تعليقا